نشأة علم التوجيه والاحتجاج للقراءات
المبحث الأول
نشـــأة هــذا العـــلم
بزغت بواكير هذا الفن في هيئة ملاحظات أولية تروى عن بعض الصحابة والتابعين والقراء
(1)، مفرقة لا تستوعب قراءة بعينها ولا عدداً من القراءات، وإنما ترد عند الحاجة، ويدعو إليها اختيارهم وجهاً قرائياً على آخر، وكانت تعتمد في الغالب على حمل لفظ القَراءة على نظيره من القرآن الكريم، ثم أخذت تتجه مع ذلك إلى شيء من التعليل والتفسير.
من ذلك ما يروى عن ابن عباس –رضي الله عنهما– (ت68هـ) أنه كان يقرأ (ننشرها) بالراء المهملة وضم النون من قول الله تعالى: (وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا) [البقرة: 259] ويحتج لقراءته بقوله الله تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ} (22) سورة عبس وكأنه يذهب بذلك إلى أن معناها نُحييها
( 2).
وهما (ننشزها وننشرها) قراءتان متواترتان.
وورد عن ابن عبّاس أيضاً أنه فسّر قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ } (110) سورة يوسف: أن الرسل ظنت أنهم قد كُذبوا فيما وُعدوا من النصر، وكانوا بشراً فضعفوا ويئسوا وظنوا أنهم قد أخلفوا كما قال تعالى: حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} سورة البقرة فإذا كان ذلك جاء نصر الله للرسل
(3).
ونقِلَ عن عائشة رضي الله عنها أنها ردّت هذا التفسير.
قال ابن أبي مليكه: وأخبرني عروة عن عائشة أنها خالفت ذلك وأبته وقالت: ما وعد الله رسوله من شيء إلا علم أنه سيكون قبل أن يموت، ولكنه لم يزل البلاء بالرسل حتى ظنوا أن من معهم من المؤمنين قد كذبوهم، وكانت تقرؤها: (وظنوا أنهم قد كذبوا) مثقلة للتكذيب"
(4).
وهما (التخفيف والتشديد) قراءتان متواتران.
وروي أن عائشة رضي الله عنها قالت في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاء قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (112) سورة المائدة. كان الحواريّون أعلم بالله من أن يقولوا: هل يستطيع ربُّك، إنما قالوا: هل تستطيع أنت ربَّك؟ هل تستطيع أن تدعوه؟
(5).
وفي الآية قراءتان متواترتان هما: (هل يستطيعُ ربُّك) و(هل تستطيعُ ربَّك).
وكان أبو عمرو بن العلاء (ت154هـ) يقرأ الفعل يُصْدِرَ بفتح الياء وضم الدال (يَصْدُرَ) من قول الله تعالى: (قالتا... الرعاء) [القصص: 23] ويحتج لاختياره بأن: "المراد من ذلك حتى ينصرف الرعاء عن الماء، ولو كان (يُصْدر) كان الوجه أن يذكر المفعول فيقول: (حتى يصدر الرعاء ماشيتهم) فلما لم يذكر مع الفعل المفعول علم أنه غير واقع، وأنه (يَصْدُرَ الرّعاء) بمعنى ينصرفون عن الماء
(6).
وهما قراءتان متواتران، وسيأتي مزيد وقوف وتوجيه وتحرير للمقام مع هاتين القراءتين وما سبقهما من قراءات في الباب الثاني –إن شاء الله تعالى -.
وفي كتب اللغة والأصول وعلوم القرآن والتفسير ومعاني القرآن جملة وافرة من توجيه القراءات والاحتجاج لها، يتبلّغ بها اللغويون إلى الاستشهاد على بعض قواعدهم، أو إلى ترجيح وجه لغوي على آخر، ويعتضد بها الفقهاء في استنباط الأحكام، ويستعين بها المفسرون على بيان المعاني التي تتضمنها الآي.
"فتجد الاستشهاد بالقراءات ولها مالئاً كتاب سيبويه (180هـ)، وتستطيع أن تعُدّ ذلك مذهب أستاذه الخليل، إذ كان سيبويه كثير النقل عنه والتأثر به، ولو وصلت إلينا كتب من قبلهُ لرأينا الأمر مقارباً.
ومن المحتمل أن يكون أُلف في المئة الثالثة رسائل في الاحتجاج للقراءات وإن لم يصل إلينا علم شيء منها"
(7).
ومن أوائل من تتبعوا القراءات القرآنية توجيهاً وبياناً الإمام ابن جرير الطبري (ت310هـ)، وذلك من خلال تفسيره "جامع البيان" حيث اعتنى رحمه الله بذكره وجوه القراءات المختلفة، وبيان حجة كل منها من حيث اللغة والاستشهاد لها بما يحضره من شواهد الشعر والنثر، ولكنه في أثناء ذلك فتح باب الاعتراض والرد لبعض وجوه القراءات الصحيحة، كما أنه كان يوجه القراءتين الصحيحتين ويختار إحداهما على الأخرى، وسيأتي بحث المشكلات التي وقع فيها العلماء، كابن جرير ومكي وأبي علي الفارسي وغيرهم، في تعاملهم مع القراءات المتواترة في فصل خاص.
"وبعد الطبري يأتي ابن مجاهد (ت324هـ) فيختار سبع قراءات لسبعة من مشاهير قراء الأمصار، ويُضمها كتابه (السبعة في القراءات)، ويذكر أن له كتاباً آخر في الشواذ من القراء
(، وأيّاً ما كان موقف العلماء من تسبيعه السبعة
(9)، فقد فتحت مكانة الرجل العلمية الباب لدراسات مستقلة في توجيه القراءات والاحتجاج لها، تمحورت حول ما في كتابيه من مرويات، فكانت الحجة لابن خالويه (ت370هـ) والحجة للفارسي (ت377هـ) والمحتسب لابن جنى (392هـ) والكشف لمكي بن أبي طالب (ت437هـ) وغيرها، مما عرّج بالفن من مرحلة الملاحظات الأولية أو المتفرقة إلى مرحلة الاستقلال والنضج؛ فاتضحت بذلك معالمه وترسخت أصوله"
(10).
ولا يزال الباحثون إلى يومنا هذا يتناولون موضوع توجيه القراءات بالدراسة والبحث، وسيأتي الوقوف مع كتب التوجيه هذه قديماً وحديثاً.
المبحث الثاني
مفهوم توجيه القراءات والاحتجاج لها لغة واصطلاحاً
المبحث الثاني
مفهوم توجيه القراءات والاحتجاج لها
إن الباحث في توجيه القراءات، يجد أنه قد ذاعت لهذا الفن أسماء أخر طالما يوافقها المرء في مؤلفاته وعبارات المهتمين به، من مثل: (حجة القراءات) و (وجوه القراءات) و(معاني القراءات) و(إعراب القراءات) و(علل القراءات) واجتمعت هذه الأسماء كلها تحت مصطلح (الاحتجاج) الذي كان أعمّها دلالة، واشيعها انتشاراً في محيط الدراسات اللغوية، فما معنى كل من الاحتجاج والتوجيه في اللغة والاصطلاح؟
الاحتجاج لغة(11):
"الاحتجاج في اللغة؛ افتعال من الحَجَّ، وهو القصد، والحجّة: الدليل والبرهان، وهي الوجه الذي يكون به الظفر عند الخصومة، أو ما دُلَّ به على صحة الدعوى، والجمع حُجَجٌ وحِجاج.
قال الأزهري: "إنما سميت حُجة؛ لأنها تُحجُّ، أي تُقصد؛ لأن القصد لها وإليها". واحتج بالشيء: اتخذه حجة
(12).
فالاحتجاج على ذلك هو تلمس الحجّة، ثم الإبانة عنها وإيضاحها.
الاحتجاج اصطلاحاً:
"قد ضنت علينا مصادر هذا الفن، والمتهمون به، بتقديم تعريف جامع مانع له، وأغلب الظن أنهم استعاضوا عن ذلك بعنوانات كتبهم التي تكشف عن مادته وهدفه، ويكفي أن تطالع في ذلك عنواناً مثل (الكشف عن وجوه القراءات السبع وعللها) لمكي ابن أبي طالب (ت437هـ) و(المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها) لابن جنى (ت392هـ) لنهتدي به في اقتراح تعريف له يمتاز به من سائر مجالات البحث الأخرى التي يرد فيها ولعل أقرب ما يعرف به أنه (فن يُعنى بالكشف عن وجوه القراءات وعللها وحججها، وبيانها والإيضاح عنها)
(12).
ومن هنا جاء لفظ الاحتجاج، فقد انبرى العلماء المحتجون لتوضيح حججهم، ولعل الداعي إلى سلوك هذا النهج هو بيان وجه اختيار القارئ للقراءة بهذا الوجه، والبرهنة على صحة القراءات الصحيحة، ردّاً على من يرتاب في صحتها، كما ساعد ذلك على بيان ثراء معاني القرآن العظيم، وتنوع دلالاته الناجمة عن تنوع القراءات.
التوجيه لغة:
أما التوجيه فهو مصدر للفعل وجَّه، وأصله من الوَجه، ووجه الكلام: السبيلُ الذي تقصده به، ويقال في المثل: وَجّهِ الحَجَر وِجهَةً ماله
(13)، أي: ضعه على وجهه اللائق به، ويُضرب لمن لا يدبر الأمر على وجهه الذي ينبغي أن يوجه عليه، وكساء مُوجه، أي: ذو وجهين
(14).
التوجيه اصطلاحاً:
"بناءً على ما سبق يتأتى مفهوم توجيه القراءات؛ فنراه يدور حول بيان الوجه المقصود من القراءة، أو تلمس الأوجه المحتملة التي يجرى عليها التغاير القرآني في مواضعه، سواء كانت هذه الوجوه –كما سيتضح – نقلية أم عقلية، وهو بذلك المفهوم لا يكاد يختلف عن سابقه كبير اختلاف، سوى أن بعض علمائنا المتأخرين قد آثروا استعماله على مصطلح الاحتجاج، وأظن أن الذي حملهم على ذلك –حسبما يتبادر إلى الذهن – هو شيوعه في مجال الدرس اللغوي، وارتباطه بأكثر من مصدر من مصادره؛ فعمدوا إلى تمييز القراءات من ذلك بمصطلح التوجيه، بل ذهبوا إلى تخصيصه بالبحث في وجوه المعاني المترتبة على اختلاف القراءات.
فالزركشي (ت794هـ) يجعل النوع الثالث والعشرين من علوم القرآن في (معرفة توجيه القراءات، وتبيين وجه ما ذهب إليه كل قارئ) ويرى أنه "فن جليل" وبه تعرف جلالة المعاني وجزالتها، وقد اعتنى به الأئمة وأفردوا فيه كتباً... وفائدته كما قال الكواشي (ت680هـ): أن يكون دليلاً على حسب المدلول عليه أو مرجِّحاً"
(15).
بين التوجيه والاختيار
شاع في محيط الدراسات التي تعنى بالقراءات القرآنية، إلى جانب مصطلحي الاحتجاج والتوجيه، مصطلح الاختيار، وهو مصطلح له دلالته الخاصة البعيدة والمستقلة عن مفهوم التوجيه والاحتجاج، لكن استعمال بعض العلماء لهذا المصطلح أو التعبير في أثناء توجيههم للقراءات، يدفعنا إلى الوقوف مع المصطلح لنتبين مقصود العلماء به. وهنا نجد أنفسنا مضطرين للتفريق بين مدلولي استعمال هذا المفهوم:
الأول: استعمال علماء التوجيه لهذا المصطلح بعد توجيههم للقراءات وبيان الحجة لكل منها، ثم يردف بعضهم ذلك بقوله والاختيار عندي قراءة كذا، كما كان يفعل مكي بن أبي طالب وابن خالويه، ومن قبلهما الإمام الطبري وغيرهم، وهذا الاستعمال في هذا السياق يحدد أن المقصود بلفظ (الاختيار)، أي الوجه المرجح والذي له أولوية القبول من بين وجوه القراءة، وهم بذلك يفضلون قراءة صحيحة على قراءة مثلها، ويُحكمون بجواز تفاضل القراءات المتواترة من حيث المعنى والدلالة، وهو ما رفضه المحققون من العلماء، وهبّوا لتصحيح هذا الفهم، وهو ما سيأتي مزيد وقوف وتفصيل له في الفصل القادم (مشكلات في التعامل مع القراءات).
وهذا الاستعمال لمفهوم الاختيار، ليس هو الذي يتبادر إلى الذهن حيث يطلق مفهوم (الاختيار) عند المشتغلين بعلم القراءات، ولا هو من مصطلحاتهم، بل له مفهوم خاص حدده هؤلاء العلماء، سنبينه بعد ذكر معناه في اللغة.
الاختيار في اللغة:
الاختيار في اللغة الاصطفاء والانتقاء واختار الشيء على غيره، فضّله عليه. وكذلك التخير، ويقال: خيّرته بين الشيئين، أي: فوّضت إليه الخيار، والخيار: الاسم من الاختيار
(16).
ويتحدث أستاذنا الدكتور فضل عباس
(17) –حفظه الله- عن معنى الاختيار في الاصطلاح فيقول: "عرّف الشيخ طاهر الجزائري، الاختيار بقوله: "الاختيار عند القوم أن يعمد من كان أهلاً إلى القراءات المروية، فيختار منها ما هو الراجح عنده، ويجرد من ذلك طريقاً في القراءات على حده"
(18).
وقال القرطبي في تفسيره:
"وهذه القراءات المشهورة هي اختيارات أولئك الأئمة القراء، وذلك أن كل واحد منهم اختار ممّا روي وعلم وجْهُهُ من القراءات ما هو الأحسن عنده والأولى، فالتزمه طريقة ورواه وأقرأ به واشتهر عنه وعرف به، ونسب إليه، فقيل حرف نافع وحرف ابن كثير"
(19).
وقد كان لكبار القرّاء اختيارات عن شيوخهم الذين تلّقوا عنهم، فقد كان شيبة، يقول: "انظر ما يقرأ أبو عمرو مما يختار لنفسه، سيصير إسناداً
(20)، وقد كان للكسائي وليحيى بن سليمان ولأبي حاتم السجستاني اختيارات في القراءة
( 21).
قال ابن خالويه في الحجة:
"وبعد، فإني تدّبرت قراءة الأئمة السبعة من أهل الأمصار الخمسة –مكة والمدينة والشام والبصرة والكوفة -. المعروفين بصحة النقل، وإتقان الحفظ، المأمونين على تأدية الرواية واللفظ، فرأيت كلاً منهم ذهب في إعراب ما انفرد به من حرفه مذهباً من مذاهب العربية لا يُدفع، وقَصَدَ من القياس وجهاً لا يُمنع، فوافق باللفظ والحكاية طرق النقل والرواية غيرَ مؤثرٍ للاختيار على واجب الآثار"
(22).
مما سبق ذكره نستطيع أن نتبين أن اختيارات القراء تقوم على ضوابط للاختيار، فمن تعريف الشيخ طاهر الجزائري نستنتجُ قيدين لا يقبل الاختيار دونهما:
أولهما: أهلية من يختار، والثاني: أن يختار ممّا يروى وثبت نقله.
مفهوم الاختيار في القراءات القرآنية إذن يعني:
إن يختار القارئ من التابعين أو تابعي التابعين قراءة موصول السند إلى الرسول من مجموع الروايات التي أخذها عن شيوخه مجتهداً في اختياره.
فالقارئ لا يخترع قراءته، ولا يؤلف عناصره من عند نفسه، بل يجتهد في انتخاب الرواية فالاختيار لا يكون إلا مما رواه الأئمة (وليس لأحد أن يأتي بوجه آخر لم ينقله علماء القراءة برغم الاختيار، لأن الاختيار أساسه الرواية كما هو ظاهر من تاريخ القراءات)
(23).
بعد ذلك يتضح أن هذا الاستعمال لمصطلح الاختيار هو المقبول، وهو استعمال له في مقام الرواية لا في مقام التوجيه، وأن الاستعمال الأول، لا يصح قبوله في التعامل مع القراءات، وهو يؤدي إلى خلل منهجي مرفوض.